هل يخرج من ابتدع بدعة مكفرة أو بدعة غير مكفرة من أهل السنة ؟

 
** السؤال كامل
السائل : بالنسبة للأسئلة كلها تصب في مصب واحد شيخنا، فالآن الإجابة تقصر لأن المنهج والإطار العام واضح، [فقط جزئيات صغيرة في الجوانب] المتعلقة بالتبديع. البعض يقول: أن من ابتدع بدعة مكفرة يخرج عن أهل السنّة، ومن ابتدع بدعة مفسقة لا يخرج عن أهل السنة، وحتى لو أقيمت عليه الحجّة، وأصرّ عليها؛ هل يعدّ مِن أهل السنّة حينئذ ؟.
* جواب السؤال

الشيخ : أوّلاً: ما هي البدعة المكفّرة ؟. وما هي البدعة الغير المكفرة ؟. السائل: بدعة مفسقة، وبدعة مكفرة. الشيخ : ما هي؟. السائل : المكفرة كأن يبتدع بدعة كفرية مثل القول بعدم استواء الرب جل وعلا على العرش ومثل ذلك، والبدعة المفسقة كأن يقع في بدعة من بدع العبادات كالمولد مثلاً. الشيخ: هذا الكلام غير صحيح ، هذا الكلام منشؤه من علم الكلام، التفريق بين البدعة في الأصول، والبدعة في الفروع، أو البدعة في الأحكام، والبدعة في العبادات، هذا التفريق هو بدعة. أرأيتَ لو أن رجلاً جاء إلى سنة من سنن الرسول، كسنّة الفجر مثلاً فجعلها أربعاً وأصرّ على ذلك، من أي نوع هذه البدعة ؟. آلأولى المكفرة ؟. أم المفسقة ؟. السائل: على هذا التقسيم تكون من المفسقة. الشيخ: هذا كلام باطل، من الأشياء التي ورثها الخلف عن السلف، وأعني هنا بكلمة السلف غير المعنى الاصطلاحي بيننا، هو التفريق بين الخطأ في الفروع، والخطأ في الأصول، الخطأ في الفروع مغتفر، والخطأ في الأصول غير مغتفر، والحديث المعروف صحته:« إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد »؛ هذا في الفروع. أما في الأصول: الخطأ غير مغفور، هذا لا أصل له لا في الكتاب ولا في السنّة ولا في أقوال السلف الصالح، وما يوجد في أقوال السلف الصالح فيها ترهيب شديد عن البدعة مطلقاً سواء كانت في العقيدة أو كانت في العبادة. أنا ذكَّرت آنفاً في الحقيقة من كفّر مسلما فهو قد كفر، وألحقته بها من بدّع مسلماً إلى آخره ، لأنه في الحقيقة لا فرق عندي بين كفر وبين بدعة. لو أنّ مسلماً ابتدع بدعة وتبيّنت له بدعتُه وأصرّ عليها كالمثال الذي أوردته لك آنفاً، فهو كما لو أنكر استواء الله على خلقه، أو أنكر أن القرآن مِن كلامِه أو.. أو ، لا فرق بين هذا وهذا إطلاقاً ، لا سلباً ولا إيجاباً. إيجاباً: نقول: هذا كفر بالشرط المذكور آنفاً وأقيمت عليه الحجّة، وذاك كفر بالشرط المذكور آنفاً أي بعد إقامة الحجّة. هذا إيجاباً. سلباً: لا تكفير لا في هذا ، ولا في هذا إلاّ بالشرط المذكور. أعود، المعتزلة والخوارج يلتقون في بعض الضلالات، ويختلفون في بعض. مثلاً: الخوارج يلتقون مع المعتزلة في القول: بأن القرآن مخلوق. تعلم هذا ؟. وقد ذكرتُ لك آنفاً أنّ المحدثين لا يكفرون الخوارج، إذاً كيف نجمع في ذهننا أنّ مَن أنكرَ عقيدةً فهو كافر ، أما مَن ابتدع بدعةً في العبادة فهو فاسق ؟. وها نحن نرى أئمة الحديث يروون عن الخوارج وعن المعتزلة مع أنهم يخالفون العقيدة الصحيحة في غير ما مسألة. فهم مثلاً هؤلاء الذين قالوا: بأن كلام الله مخلوق ، يُنكرون أيضاً رؤية الله في الآخرة. تدري هذا ؟. طيب، هذا الإنكار والذي قبله يَنصَبُّ عليهما تعريفنا السابق، هو كفر، لكن ليس كل من وقع في الكفر وَقَع الكفر عليه. كيف نوفِّق حينما نجد أئمة الحديث، وأئمة السلف كابن تيمية وابن القيّم يحكمون بضلال الخوارج والمعتزلة ولا شك، لكن لا يقولون: بأنهم كفّار، مرتدّون عن دينهم. لأنهم يضعون احتمال أنّ الأمر شُبِّهَ لهم أوّلاً، وأنّ الحجّة لم تقم عليهم ثانياً. نرجع لأصل، موضوعنا الأول؛ أنّ هؤلاء مبتدعة، لكن ما ندري هل هم قصدوا البدعة ؟، هل أقيمت الحجّة عليهم إلى آخره ؟. هذا هو منهج العلماء يحكمون بضلال المعتزلة وبضلال الخوارج وبضلال الأشاعرة في غير ما مسألة، لكنهم لا يكفّرونهم، لا يُخرجونهم من دائرة الإسلام للاحتمال الذي ذكرناه آنفاً، وهو يعود إلى أمرين أُذكّر بهما: الأول: أنهم ما قصدوا الابتداع والمخالفة والمعاكسة. ثانياً: أنّنا لا ندري أُقيمت الحجّة عليهم أو لا . فإذاً حسابهم إلى الله، ولنا ظاهرهم، ظاهرهم الإسلام ، وماتوا على هذا الإسلام، ودُفنوا في مقابر المسلمين، فإذن هم مسلمون. فالتفريق إذاً بين البدعة المكفرّة والبدعة المفسقة هذا: أولاً: تفريق اصطلاحي ناشئ من علماء الكلام. وثانياً: لا دليل عليه إطلاقاً. وأختم الكلام على هذه المسألة بالتذكير بحديث يدلُّك على ما ذكرتُ آنفاً أنّ ليس كلّ من وقَعَ في الكفر تلبَّسَه الكفر ووقع الكفر عليه، أعني به حديث البخاري من رواية صحابيين جليلين وهما أبو سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:« كان فيمن كان قبلكم رجل حضرته الوفاة فجمع أولاده حوله فقال لهم: أيّ أبٍ كنتُ لكم ؟. قالوا: خير أبٍ. قال: فإني مذنبٌ مع ربي ولإن قدِرَ الله عليّ ليعذبني عذاباً شديداً، فإذا أنا متُّ فخذوني وحرِّقوني بالنار ثم ذروا نصفي في البحر ونصفي في الرياح، فمات حرقوه بالنار فذروا نصفه في الريح ونصفه في البحر. فقال الله عز وجل لذراته: كوني فلاناً فكانت. قال الله عز وجل: أي عبدي ما حملك على ما فعلتَ ؟. قال: ربي خشيتُك. قال: اذهب فقد غفرتُ لك ». فالآن نحن نتساءل، كفر هذا الرجل ولا ما كفر ؟. كفر، لكن الله غفر له. متدخل: قال: ما كفر. الشيخ : ما كفر قال، أنا ما سمعته، بقوله: لإن قدِرَ الله عليّ، ما كفَرَ ؟. المتدخل: إي نعم. هذا القول نعم. الشيخ : فإذا أنا ما حدثتك، قلت كفر أم لا؟ المتدخل: نعم. الشيخ : طيِّب، ونحن نعلم من القرآن الكريم : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء : 48]. كيف الجمع ؟. الجمع يُفهم من الكلام السابق : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾ [النساء : 48]؛ ﴿ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ عامداً متعمّداً، شو رأيك بهذا القيد ؟. السائل : جيد. الشيخ : كويس، لكن موجود في الآية ؟. السائل : غير موجود. الشيخ : غير موجود، من كيسنا جبناه ؟. السائل : لا. الشيخ : لا ، هكذا الشريعة لا تؤخذ مِن نص من آية من حديث واحد، وإنما مِن مجموع ما جاء في المسألة. لذلك ليس فقط المسائل الفقهية يجب أن تُجمَع كل نصوصها حتى نعرف الناسخ مِن المنسوخ، والخاص من العام، والمطلق مِن المقيد ووو إلى آخره، بل العقيدة أولى بذلك بكثير. فحينما يشرح العلماء هذه الآية :﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾؛ عادةً لا يتعرّضون لمثل هذه التفاصيل، لأن الأمر فيما يبدو لهم واضح ما يحتاج إلى مثل هذا التفصيل، لكن حينما تأتي الاشكالات والشبهات فهنا يضطر العالم أن يبيّن ما عنده مِن علم، فهذا الرجل الذي أوصى بالوصية لا أتصوّر أنها في الجور والظلم والضلالة يُمكن أن يكون لها مثل، يُحرّقوه في النار مشان يضل على ربّه، والله يقول: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [يس : 78]، مع ذلك غفَرَ له لماذا ؟. لأن الكفر ما انعقد في قلب هذا الإنسان، وإنما هو تصوّر ذنوبه مع الله عز وجل، وخوفه منه، وأنّ الله عز وجل إذا وَصَل إليه أنه سيعذبه عذاباً شديداً. هذه الرهبة وهذه الخشية أعمت عليه العقيدة الصحيحة فأمَر بهذه الوصية الجائرة، والحديث واضح :« اذهب فقد غفرتُ لك ». إذاً ما ينبغي نحن أن نتصوّر أن سيّد قطب وقع في وحدة الوجود مثلاً كما نعتقد، أنه قاصدها وعاقد القلب عليها مثل ابن عربي هذا الذي أضلّ ملايين من المسلمين الصوفيين إلى آخره. ربما هذه سانحة فكرية صوفية وهو سجين خطرَت في باله، وما أحاط بالمسألة علماً ، فكتَبَ تلك العبارة التي كنتُ أنا من أوّل من انتقدها. ما نحكم عليه بالكفر، لأننا ما ندري انعقد الكفر في قلبه، ثم هل أقيمت الحجّة عليه وبخاصة وهو في سجنه أنّى له ذلك. لهذا لا نربط بين كون المسلم وقَعَ في الكفر وبين كون هو كافر، ما نربط بين أمرين، هذا أولاً وقد تكرّر هذا تحذيراً. وثانياً: لا نفرّق بين البدعة في العقيدة، وبين البدعة في العبادة ، كلاهما إمّا ضلال وإمّا كفرُ. ولعلّ في هذا القدر كفاية، أبا عبد الرحمن.