كيف حج النبي صلى الله عليه وسلم محاضرة لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز

 المحاضرة مفرغة : 

 مع مطلع هذه الحلقة سماحة الشيخ أرجو بأن تتفضلوا بتكملة الحديث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما في هذا الموضوع من فائدة عظيمة ولعل الكثير يتأسون بفعله عليه أفضل الصلاة والسلام من برنامج نور على الدرب برنامج يومي من إذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية يجيب أصحاب الفضيلة العلماء على أسئلة المستمعين
 

الشيخ

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهم ، أما بعد :-
فقد سبق في حلقة مضت أن ذكرنا صيغة حجه عليه الصلاة والسلام من حين أحرم في ذي الحليفة إلى أن خرج من منى إلى عرفات صباح اليوم التاسع. ذكرنا أنه توجه من منى إلى عرفات بعد طلوع الشمس في اليوم التاسع ملبياً ، والصحابة منهم من يلبي ومنهم من يهلّ فلا يُنكر على واحد منهم ، ودل ذلك على أن الحجاج إذ توجهوا من منى إلى عرفات يشرع لهم التلبية والتهليل والتكبير. والتلبية أفضل لأنها عمله عليه الصلاة والسلام وسبق أنه صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وجد فيها قبة من شعر فضربت له فنزل بها حتى زالت الشمس ، فلما زالت الشمس أمر بناقته فرحلت له ثم ركب عليها عليه الصلاة والسلام حتى أتى بطن الوادي يعنى وادى عُرَنة فخطب الناس خطبة طويلة عليه الصلاة والسلام وذكّرهم بالله وبحقه وبيِّن فيها ما قدمنا من وضعه أمر الجاهلية ووضعه الربا ووضعه دماء الجاهلية ووصيته للمسلمين بالنساء خيراً وبيانه حق النساء على الأزواج وحق الأزواج على النساء ،
وتقدم أيضاً أنه أوصى عليه الصلاة والسلام بكتاب الله أوصى بالقرآن الكريم قال : إنكم لن تضلوا ما اعتصمتم به وفى رواية أخرى بكتاب الله وسنته عليه الصلاة والسلام ، وسبق أن هذا أمر معلوم فالوصية بكتاب الله وصية بالسنة لأنها الوحي الثاني ولأن القرآن أمر بطاعة الله ورسوله فطاعة الرسول هي امتثال السنة والأخذ بها والتمسك بها.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من خطبته قال لهم : وأنتم تُسألون عنى فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكبها للناس ويقول: اللهم اشهد اللهم اشهد فهذا يدل على أن الله سبحانه في السماء في العلو ولهذا رفع يده إلى السماء ، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى فوق العالم فوق جميع خلقة وأنه سبحانه فوق العرش هذا هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة ، وعلمه بكل مكان سبحانه وتعالى كما قال عز وجل : الرحمن على العرش استوى وقال سبحانه وهو العلي العظيم وقال سبحانه : فالحكم لله العلي الكبير وهو سبحانه فوق العرش فوق جميع خلقه وعلمه لا يخلو منه مكان ولهذا استشهد عليه الصلاة والسلام برفع إصبعه إلى السماء وفى هذا من الفوائد الشرعية شرعية خطبة الناس في عرفات وأن ولى الأمر يخطب الناس تأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام أو يخطبهم نائبه حتى يبين لهم مناسك حجهم وحتى يرشدهم إلى أصل الدين وأساسه وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مع بيان معنى ذلك وأن هاتين الشهادتين هما أصل الدين وهما أصل الإسلام ومعناهما توحيد الله والإخلاص له والإيمان برسوله محمد عليه الصلاة والسلام ويذكر لهم أيضاً ما يحتاجون إليه في هذه خطبة من مناسك الحج ومن غير هذا من شؤون الإسلام.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من خطبته أمر بلالاً فأذن ثم أقام وصلى بهم ركعتين ، ثم أقام وصلى العصر ركعتين جمع تقديم وهذا هو السنة للحجاج أن يصلوا الظهر والعصر قصراً وجمعاً في أول وقت الظهر كما فعله المصطفى عليه الصلاة والسلام حتى يتسع الوقت للدعاء والذكر في عرفات فتكون الخطبة قبل ذلك قبل الآذان وقبل الصلاة كما فعله النبي عليه الصلاة والسلام ، وفيه دلالة على أنه ما صلى الجمعة فإنه كان يوم الجمعة خطب الناس قبل الآذان وذكرهم ثم أذن وصلى الظهر ركعتين بعدما أقام بلال ، ثم صلى العصر ركعتين أيضاً بعد الإقامة . هكذا السنة.
ويدل ذلك على أن المسافر لا يصلى جمعة وإنما يصلي ظهراً وهكذا الحجيج إذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة فإنهم يصلون ظهراً كما فعله المصطفى عليه الصلاة والسلام لا يصلون جمعة ولهذا صلى الظهر ركعتين وصلى العصر ركعتين بآذان وإقامتين بآذان واحد و إقامتين. هذا هو السنة للحجاج لفعله عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد ذلك تقدم إلى عرفات فوقف عند الصخرات وهو جبل الدعاء وسمى جبل الرحمة وجعل وجهه إلى القبلة علية الصلاة والسلام وجعل طريق المشاة بين يديه فلم يزل يدعو ويضرع إلى الله رافعاً يديه حتى غابت الشمس. فهذا يدل على أن هذا هو المشروع للحجاج بعد صلاة الجمع الذي هو العصر يتوجهون إلى عرفات إن كانوا خارج عرفات وإن كانوا في عرفات استقبلوا القبلة واجتهدوا في الدعاء والذكر اقتداءً به عليه الصلاة والسلام. وقال لهم عليه الصلاة والسلام لما وقف عند الصخرات واستقبل القبلة قال وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف فدل ذلك على أن جميع أجزاء عرفة كلها موقف ، وإن حاجتك في أي جزء من عرفات فيكفيه ذلك ، والسنة استقبال القبلة حال الدعاء والذكر سواء أكان الجبل أمامه أو يمينه أو شماله أو خلفه يستقبل القبلة كما استقبلها النبي عليه الصلاة والسلام ويدعو ويضرع إلى الله ويرجوه سبحانه حتى تغيب الشمس والسنة يرفع يديه كما فعل المصطفى عليه الصلاة والسلام. وإن أكل أو استراح فلا بأس عليه فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن أم الفضل أرسلت إليه بقدح لبن فشرب وهو على راحلته عليه الصلاة والسلام فعلم الناس أنه مفطر وهذا هو السنة أن يفطر الحجيج يوم عرفة لأنه أنشط لهم على العبادة والذكر وأنهم ضيوف الرحمن فالأنسب أن يكونوا مفطرين لينشطوا للعبادة والذكر والدعاء في هذا اليوم العظيم فقد قال عليه الصلاة والسلام : الحج عرفة فهذا اليوم هو الوقوف فيه فمن فاته الوقوف بعرفة فاته الحج.
ويبتدئ الوقوف بعد الزوال إلى طلوع فجر ليلة النحر يعنى بقية يوم عرفة على الليلة كلها ليلة النحر غروب الشمس إلى طلوع الفجر كل هذا موقف ، فإن وقف في عرفات بعد الزوال أو بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج ومن لم يدرك عرفة إلا بعد طلوع الفجر فاته الحج.
واختلف العلماء رحمة الله عليهم فيما قبل الزوال من يوم عرفة هل يجزئه الوقوف فيه أم لا يجزئ على قولين الأكثرون على أن الوقوف لا يجزئ إلا بعد الزوال لأنه الموقف حين جعله النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال آخرون لو وقف قبل الزوال في صباح عرفة وانصرف أجزئه ذلك ولكن عليه دم لأنه لم يقف إلى الغروب ، واحتجوا بما ثبت من حج عروة المضرس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول لله أكللت راحلتى وأتعبت نفسي وما تركت من جبل إلا وقفت عنده فهل لي من حج فقال عليه الصلاة والسلام : من شهد صلاتنا هذه في مزدلفة وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فقول رسول الله عليه وسلم وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارا يعمّ ما قبل الزوال ، ولهذا ذهب أحمد - رحمه الله - والجماعة إلى أن الوقوف قبل الزوال يجزئ ويدرك به الحج ، وذهب الجمهور - رحمة الله عليهم - إلى أنه لا يدرك الحج إلا بالوقوف بعد الزوال.
فينبغي للمؤمن أن يحتاط لدينه وألا يقف إلا بعد الزوال كما وقف النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد ما غابت الشمس توجه عليه الصلاة والسلام إلى مزدلفة بعد غروب الشمس ، هذا هو المشروع للحجيج أن يمكثوا في عرفات ذاكرين ملبين داعين مخلصين لله خاشعين لله حتى تغيب الشمس فإذا غابت انصرفوا إلى مزدلفة ، وليس في يوم عرفة دعاء واجب ولا متعين بل يدعو الله بما تيسر ، وروى عنه صلى الله عليه وسلم قال : خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
فينبغي أن يكثر من ذكر الله عز وجل وتسبيحه وتحميده وتكبيره واستغفاره والدعاء في هذا اليوم العظيم فيسأل ربه الجنة ويستعيذ به من النار ويسأله كل خير سبحانه وتعالى ويستجير به من كل شر فهو يوم عظيم فيه يتجلى الله لعباده كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يتجلى لعباده في يوم الجمع ويوم عرفة ويدنو منهم كما يشاء سبحانه جلا وعلا. فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ويقول عليه الصلاة والسلام : ما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة وأنه سبحانه ليباهي به الملائكة فهو يوم عظيم يباهى الله فيه الملائكة بحال الحجيج ويدنو منهم كما يشاء سبحانه وتعالى دنوا يليق بجلاله ولا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى ويعتق العتقاء الكثر من النار في هذا اليوم العظيم.
فينبغي لك يا عبد الله أن تجتهد في الضراعة إلى الله واستغفاره وسؤاله القبول وسؤاله العتق من النار في هذا ليوم العظيم. ثم بعدما وصل مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء ، وكان في الطريق عليه الصلاة والسلام يحث الناس على السكينة وعدم العجلة ويقول: لهم في الطريق السكينة السكينة فإن البر ليس في الإيضاع أي ليس في الإسراع
ويلبى في طريقه عليه الصلاة والسلام ، هكذا السنة إذا انصرف الناس من عرفات بعد الغروب أن يلبوا ويكثروا من التلبية ولا يعجلوا لئلا يضر بعضهم بعضاً فبالسكينة ، فإذا وجد فجوة نص عليه الصلاة والسلام هكذا الناس ينبغي أن يكون انصرافهم بالسكينة ، فمن وجد سعة في بعض الأماكن فلا مانع أن يعجل تعجيلاً لا يضر غيره.
فلما وصل صلى الله عليه وسلم مزدلفة أمر بالآذان فؤذن ثم صلى المغرب بإقامة ثلاثاً وصلى العشاء بإقامة ركعتين فصلاهما بأذان واحد وإقامتين كما فعل في عرفات عليه الصلاة والسلام هذا هو السنة للحجيج أن يصلوا المغرب والعشاء جمعا وقصراً ، أن يقصر للعشاء أما المغرب فإنها لا تقصر، ثلاث دائما في السفر والحضر فيصليهما بأذان وإقامتين اقتداءاً بنبينا عليه الصلاة والسلام
ثم بعد ذلك استراح عليه الصلاة والسلام ونام كما ثبت من حديث جابر رضى الله عنه حتى طلع الفجر. فلما طلع الفجر قام فصلى الفجر بأذان واحد وإقامة صلها في غلس عليه الصلاة والسلام حتى يتسع الوقت للوقوف عند المشعر الحرام ، وأذن للضعفاء والنساء والشيوخ بالانصراف من مزدلفة ليلا لئلا يحصبهم الناس. وأما الأقوياء فجلسوا معه حتى صلوا الفجر ووقفوا عند المشعر ودعوا الله كثيراً حتى أسفروا فلما أسفر صلى الله عليه وسلم انصرف إلى منى قبل طلوع الشمس هكذا ما ينبغي للناس أن يبقوا في مزدلفة حتى يبيتوا بها ويصلوا فيها الفجر.
أما الضعفاء من النساء والعجائز والشيوخ الكبار والصبيان ونحوهم ممن يكون معهم فلا بأس ، بل الأفضل أن ينصرفوا قبل حصبة الناس من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل ومن انصرف معهم من محارمهم ومن هو معهم في رحلهم فلا بأس عليه.
أما القوى الذي ليس معه نساء فالأفضل له أن يبقى حتى يصلى الفجر ثم يدعو الله ويذكره كثيراً حتى يسفر ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لما وقف في مزدلفة قال : وقفت هاهنا وجمع كلها موقف يعنى مزدلفة يقال لها جمع ، فالمعنى أن مزدلفة كلها موقف كما أن عرفة كلها موقف. كل إنسان في مزدلفة يجلس في محله ويدعو الله ويستغفره ويتضرع إلى المولى الجليل سبحانه وتعالى ويذكر الله وليس هناك حاجة أن يتقدم إلى قزح موقف النبي عليه الصلاة والسلام الجبل المعروف ، بل كل إنسان يدعو الله في مكانه والحمد لله. وكان في عرفات وفى مزدلفة يرفع يديه في الدعاء ويلح بالدعاء عليه الصلاة والسلام فالسنة رفع اليدين مع الإلحاح في الدعاء والإكثار من الدعاء تأسياً به عليه الصلاة والسلام.
ومن نفر من الأقوياء إلى منى قبل طلوع الفجر أجزئه على الصحيح ولكنه فاته الفضل ، فالأفضل له والكمال أن يجلس حتى يصلى الفجر وحتى يقف قبل الفجر يذكر الله ويثني عليه ويتلو إلى أن ينصرف قبل طلوع الشمس. وكان المشركون ينصرفون بعد طلوع الشمس فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأنصرف قبل طلوع الشمس بعدما أسفر عليه الصلاة والسلام وهذا هو المشروع لجميع الحجاج أن ينصرفوا قبل طلوع الشمس اقتداءاً به عليه الصلاة والسلام.
ولعل هذا المقدار يكفى في هذه الحلقة حتى نكمل ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله.

** الاستماع إلى المحاضرة